فصل: تفسير الآيات (158- 162):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (153- 157):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}
{يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين} بالعون والنصرة.
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ}
نزلت في قتلى بدر مع المسلمين، وكانوا أربعة عشر رجلاً منهم ثمانية من الأنصار وستّة من المهاجرين؛ وذلك إنّ النّاس كانوا يقولون: الرّجل يقتل في سبيل الله: مات فلان، وذهب منه نعيم الدُّنيا ولذّتها، فأنزل الله تعالى {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ} أي هم أموات بل إنهم أحياء.
{بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} إنّهم كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ ارواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في ثمار الجنَّة، وتشرب من أنهارها، وتأوي بالليل إلى قناديل من نور معلقة تحت العرش».
وقال الحسن: إن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الرّوح والفرح، كما تعرض النّار على أرواح آل فرعون غداة وعشياً فيصل إليهم الوجع.
وقال أبو سنان السّلمي: أرواح الشهداء في قباب بيض من باب الجنّة في كلّ قبّة زوجتان، رزقهم في كلّ يوم طلعت فيه الشمس نور وحوت، فأما النور: ففيه طعم كلّ ثمرة في الجنة وامّا الحوت: ففيه طعم كلّ شراب في الجنّة.
قال قتادة في هذه الآية: كنّا نحّدث إنّ أرواح الشهداء تعارف في طير بيض يأكلن من ثمار الجنّة وإنّ مساكنهم السدرة المنتهى، وإنّ للمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ ثلاث خصال: من قتل في سبيل الله منهم صار حيّاً مرزوقاً، ومن غلب أتاه الله أجراً عظيماً، ومن مات رزقه الله رزقاً حسناً.
عن النبّي صلى الله عليه وسلم قال: «يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمهِ يكفّر عنه كل خطيئة ويرى مقعده من الجنّة ويزوّج من الحور العين ويؤمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر ويحلّى بحلية الإيمان».
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} ولنختبرنّكم يا أمّة محمّد.
{بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع} الآية، قال ابن عبّاس: الخوف يعني خوف العدو، والجوع يعني المجاعة والقحط.
{وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال} يعني الخسران والنّقصان في المال، وهلاك المواشي {والأنفس} يعني الموت والقتل، وقيل: المرض وقيل: الشيب.
{والثمرات} يعني الحوائج، وأن لا تخرج الثمرة كما كانت تخرج، وقال الشافعي: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف} يعني خوف الله عزّ وجلّ {والجوع} صيام شهر رمضان، {وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال} أداء الزّكاة والصدّقات، {والأنفس} الأمراض، {والثمرات} موت الأولاد؛ لأن ولد الرجل ثمرة قلبه يدلّ عليه ما روى عبد الله بن المبارك عن حماد بن سلمه عن أبي سنان قال: دفنت إبني سناناً، وأبو طلحه الخولاني على شفير القبر جالس، فلمّا أردت الخروج أخذ بيدي فانشطني وقال: ألا أُبشّرك يا أبا سنان؟
قلت: بلى.
قال: حدّثنا الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري: إنّ رسول صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد قال الله عزّ وجلّ للملائكة أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله عزّ وجلّ: إبنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد».
{وَبَشِّرِ الصابرين} على البلايا والرّزايا ثمّ نعتهم فقال: {الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ} عبيداً تجمع وملكاً.
{وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} في الاْخرة أمال نصير النّون في قوله: {إِنَّا للَّهِ}، فأمال قتيبة النون واللام جميعاً فخمها الباقون، وقال أبو بكر الورّاق: إنّا لله: اقرار منّا له بالملك وإنّا إليه راجعون: في الآخرة إقرار على أنفسنا بالهلاك.
قال عكرمة: «طفى سراج النبّي صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فقيل: يا رسول الله أمصيبة هي؟
قال: نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة»
.
قال سعيد بن جبير: ما أُعطي أحد في المصيبة ما أُعطي هذه الأمة يعني الاسترجاع ولو أعطي لأحد لأعطي يعقوب عليه السلام ألاّ تسمع إلى قوله في فقد يوسف {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه».
وعن فاطمة بنت الحسين عن أمّها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعاً وان تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثل يوم أُصيب».
{أولئك} أي أهل هذه الصفة.
{عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} قال ابن عبّاس: مغفرة {مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ونعمة.
ابن كيسان: الصلوات هاهنا الثناء والرّحمة والتزكية وإنّما ذكر الصلاة والرحمة ومعناهما واحد لاختلاف اللفظين كقول الحطيئة:
ألا حبّذا هند وأرض بها هند ** وهند أتى من دونها النأي والبعد

وجمع الصلوات لأنّه عنى بها إنها رحمة بعد رحمة.
{وأولئك هُمُ المهتدون} إلى الاسترجاع، وقيل: إلى الجنّة والثواب.
وقيل: إلى الحقّ والصّواب وكان عمر بن الخطاب إذا قرأ هذه الآية قال: نعم العدلان ونعم العلاوة.

.تفسير الآيات (158- 162):

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}
{إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله} الصفا جمع الصّفاة وهي الصخرة الصلبة الملساء، قال امرؤ القيس:
لها كفل كصفا المسيل ** أبرز عنها جحاف مضر

يقال: صفاة وصفا مثل حصاة وحصا وقطاة وقطا ونواة ونوى، وقيل: إن الصّفا واحد وتثنيته صفوان مثل عصا وعصوان وجمعه أصفا مثل رجا وأرجاء، وصَفا وصَفيِ مثل عصا وعصي، قال الراجز:
كأن متنيه من النفي ** مواقع الطير على الصّفي

والمروة من الحجارة ما لان وصغر. قال أبو ذؤيب الهذلي:
حتّى كأنّي للحوادث مروة ** بصفا المشرق كل يوم تقرع

أي صخرة رخوة صغيرة، وجمع المروة مروان وجمعها للكبير مرو مثل ثمرة وثمرات وثمر وحمرة وحمرات وحمرا. قال الأعشى ميمون بن قيس يصف ناقته:
وترى الأرض خفاً زائلاً ** فإذا ما صادف المرو رضخ

وإنّما عنى الله تعالى بهما الجبلين المعروفين بمكّة دون سائر الصّفا والمروة فلذلك أدخل فيهما الألف واللام، وشعائر الله: اعلام دينه واحدها شعيرة وكلُّ كان معلّما لقربان يتقرّب به إلى الله عزّ وجلّ من دعاء وصلاة من ذبيحة واداء فرض وغير ذلك فهو شعيرة.
قال الكميت بن زيد:
نقتلهم جيلاً فجيلاً تراهم ** شعائر قربان بهم يتقرب

وأصلها من الأشعار وهي الاعلام على الشيء.
وفي الحديث إنّ قائلاً قال: حين شجّ عمر في الحجّ: أشعر أمير المؤمنين دماً، وأراد بالشعائر هاهنا مناسك الحج التي جعلها الله عزّ وجلّ إعلاماً لطاعته، وقال مجاهد: يعني من الخبر الّذي أخبركم عنه وأصل الكلمة على هذا القول من شعرت أي: علمت كأنّه أعلام لله عباده أمر الصفا والمروة.
وتقدير الآية: إنّ الصّفا والمروة من شعائر الله، فترك ذكر الطّواف وإكتفى بذكرهما (وذلك) معلوماً عند المخاطبين.
{فَمَنْ حَجَّ البيت} أصل الحجّ في اللغة: القصد.
قال الشاعر:
كراهب يحجّ بيت المقدس ** ذي موحد ومنقل وبرنس

وقال محمّد بن جرير: من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاج.
وقال المحمل السعدي:
واشهد من عوف حلولاً كثيرة ** يحجون بيت الزبرقان المزعفرا

أي يكثرون التردد إليه لودده ورئاسته.
وقيل للحاج: حاج لأنّه يأتي البيت من عرفة ثمّ يعود إليه للطواف يوم النّحر ثمَّ ينصرف عنه إلى منى ثمَّ يعود إليه لطوف الصدر. فبتكرار العود إليه مرة بعد أخرى قيل له حاج: {أَوِ اعتمر} من العمرة وهي الزيارة.
قال العجاج:
لقد سما ابن معمر حين اعتمر ** معزى بعيداً من بعيد وضبر

أي من قصده وزاره، وقال المفضل بن سلمة: {أَوِ اعتمر} أي حلّ بمكّة بعد الطواف والسّعي ففعل ما يفعل الحلال.
والعمرة: لإقامة الموضع والعمارة: اصلاحه ومرمّته.
وعن عبد الله بن عامر بن رفيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحجّ والعمرة فإن متابعة ما بينهما يزيدان في العمر والرّزق وينفيان الذنوب كما ينّفي الكير خبث الحديد».
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} الجناح الإثمّ وأصله من جنح إذا مال عن القصد.
يقال: جنح اللّيل إذا مال بظلمته.
وجنحت السفينه: إذا مالت إلى الأرض. قال الله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} [الأنفال: 61] ومنه جناح الطائر.
{أَن يَطَّوَّفَ} أي يدور وأصله يتطوف فادغمت التاء في الطّاء.
وقرأ أبو حيوة الشّامي: يطوف مخفّفة الطاء واختلفوا في وجه الآية وتأويلها وسبب تنزيلها.
قال أنس بن مالك: كنّا نكره الطواف بين الصفا والمروة لأنهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية، فتركناه في الإسلام. فأنزل الله هذه الآية.
وقال عمر بن حبيش: سألت ابن عمر عن هذه الآية فقال: إنطلق إلى ابن عبّاس فإنّه أعلم من بقي بما أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم، فأتيته فسألته فقال ابن عبّاس: كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف، وعلى المروة صنم على صورة إمرأة تدعى نائلة، وإنّما ذكروا الصفا لتذكير الأساف وذكروا المروة لتأنيث نائلة.
وزعم أهل الكتاب إنّهما زنيا في الحرم فمسخهما الله عزّ وجلّ حجرين فوضعهما على الصّفا والمروة ليعتبر بهما فلما طالت المدّة عبدا دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين فلمّا جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى السّدي عن أبي مالك عن ابن عبّاس قال: كان في الجاهلية شياطين تعزف بالليل بين الصفا والمروة وكان بينهما آلهة فلمّا ظهر الإسلام قال المسلمون لرسول الله لا تطوفنّ بين الصفا والمروة فإنّه شرك كنّا نصنعه في الجاهلية فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قتادة: كان ناس من تهامة في الجاهلية يسعون بين الصفا والمروة فلمّا جاء الإسلام تحوّبوا السعي بينهما كما كانوا يتحوّبونه في الجاهلية فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قتادة: كان حي من تهامة لايسعون بينهما فأخبرهم إنّها كانت سنّة إبراهيم وإسماعيل عليه السلام.
وروى الزهري عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة ما الصفا والمروة؟
قالت: قول الله: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله} الآية، والله ما على أحد جناح ألاّ يطوف بين الصفا والمروة فقالت: عائشة ليس ما قلت يا ابن اختي إن هذه لو كانت على ما أولّها ما كان عليه جناح أن لا يطوف بهما، ولكنّها إنّما نزلت في الأنصار وذلك وأنهم كانوا قبل أن يسلموا يصلون لمناة الطاغية وهي صنم من مكّة والمدينة بالمشلل، وكان من أهل لها تخرّج أن يطوف بين الصفا والمروة. فلمّا أسلموا سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقالوا: يا رسول الله إنّا كنا لا نطوف بين الصّفا والمروة لأنّهما صنمان. فهل علينا حرج أن نطوف بهما؟
فأنزل الله تعالى هذه الآية. ثمّ قالت عائشة رضي الله عنها قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما. فليس لأحد تركه.
قال الزّهري: قد ذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحرث بن هشام.
فقال: هذا العلم.
وقال مقاتل بن حيّان: إنّ النّاس كانوا قد تركوا الطّواف بين الصفا والمروة، غير الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وعامر بن صعصعة سموا حمساً لتشددّهم في دينهم والحماسة والشجّاعة والصّلابة، فسألت الحمس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السعي بين الصفا والمروة أمن شعائر الله أم لا؟، فإنّه لا يطوف بهما غيرنا فنزلت هذه الآية.
واختلف العلماء في هذه الآية فقال الشافعي ومالك: الطواف بين الصفا والمروة فرض واحد ومن تركه لزمه القضاء والاعادة فلا تجزية فدية ولا شيء إلاّ العود إلى مكّة والطّواف بينهما كما لا يجزي تارك طواف الافاضة إلاّ قضاؤه بعينه.
وقالا: هما طوافان واجبان أمر بهما أحدهما بالبيت والآخر بين الصفا والمروة وحكمها واحد.
وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد: إن عاد تارك الطواف بينهما لقضائه فحسن وان لم يعد فعليه دم ورأوا أنّ حكم الطواف منهما حكم رمي بعض الجمرات والوقوف بالمعشر وطواف الصدر وما أشبه ذلك ممّا يجزي تاركه بتركه فدية ولا يلزمه العود لقضائه بعينه.
وقال أنس بن مالك وعبدالله بن الزّبير ومجاهد وعطاء: الطواف بهما تطوّع إن فعله فاعل يكن محسناً، وإن تركه تارك لم يلزمه بتركه شيء، واحتج من لم يوجب السّعي والطواف بينهما بقراءة ابن عبّاس وأنس وشهر بن حوشب وابن سيرين: فلا جُناح عليه أن لا يطّوف بهما بإثبات لا، وكذلك هو في مصحف عبدالله والجواب عنه أن (لا): زيادة صلة كقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]، وكقوله: {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]، و{لاَ أُقْسِمُ} [القيامة: 1، 2] [البلد: 1]، وقال الشاعر:
فلا ألوم البيض آلاّ تسخرا ** لمّا رأين الشمط القفندرا

فأركان رسم المصحف كذلك لم يكن فيه (تمجّح) حجة مع احتمال الكلام ما وصفناه فكيف وهو خلاف رسوم الشّيخ الإمام ومصاحف الإسلام.
ثمّ الدليل على إنّ السّعي بينهما واجب وعلى تاركه أعادة الحج ناسياً تركه أو عامداً بظاهر الأخبار. إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وأمر به.
روى جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر قال: لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصّفا في حجّته قال: «إنّ الصفا والمروة من شعائر الله إبدءوا بما بدء الله به فبدأ بالصّفا فرقى عليه حتّى رأى البيت ثمّ مشى حتّى إذا تصوّبت قدماه في الوادي سعى».
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لعمري ما حجّ من لم يسع بين الصفا والمروة، مفروض في كتاب الله والسنّة، قال الله تعالى: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيّها النّاس كتب عليكم السّعي فاسعوا».
قال كليب: رأى ابن عبّاس قوماً يطوفون بين الصفا والمروة فقال: هذا ما أورثتكم أمّكم أمّ إسماعيل إنطلقت حين عطش إبنها وجاع فوجدت الصفا أقرب جبل إلى الأرض فقامت عليه ثمّ استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً فهبطت من الوادي، ورفعت طرف درعها ثمّ سعت سعي الأنسان المجهود حتّى جاوزت الوادي ثمّ أتت المروة وقامت عليها تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرّات.
وقال محمّد: حجّ موسى صلى الله عليه وسلم على جبل أحمر وعليه عبائتان قطرانيتان فطاف بالبيت ثمّ صعد الصّفا ودعا ثمّ هبط إلى السعي وهو ملبّي فقال: لبيك اللهم لبيك، فقال الله عزّ وجلّ لبيّك عبدي وأنا معك، فخرّ موسى ساجداً.
{وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} قرأ حمزة والكسائي تطوّع بالتّاء وتشديد الطّاء وجزم العين وكذلك التاء في بمعنى يتطوع واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتباراً بقراءة عبدالله ومن تطوع بالتّاء.
وقرأ الباقون: تطوّع بالتاء وضعف العين على المضي.
قال مجاهد: فمن تطوّع بالطواف بالصّفا والمروة، وقال: تطوّع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من النبيينّ.
وقال مقاتل والكلبي: ومن تطوّع خير زاد في الطواف ففيه الواجب.
وقال ابن زيد: ومن تطوّع خيراً فاعتمر، والحج فريضة والعمرة تطوّع.
وقيل: فمن تطوّع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه.
وقال الحسن وغيره: ومن تطوّع خيراً يعني به للدّين كلّه. أيّ فعل غير المفترض عليه من طواف وصلاة وزكاة أو نوع من أنواع الطّاعات كلّها.
{فَإِنَّ الله شَاكِرٌ} مجاز بعمله.
{عَلِيمٌ} بنيّة من يشكر اليسير ويعطي الكثير ويغفر الكبير وأصل الشكر من قول العرب: دابّة شكور إذا كان يظهر عليها من السمن فوق ما يعلف.
{إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات} يعني الرجم والحدود والأحكام والحلال والحرام.
{والهدى} يعني وأمر محمّد صلى الله عليه وسلم ونعته.
{مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} لبني إسرائيل.
{فِي الكتاب} في التّوراة نزلت في علماء اليهود ورؤسائهم كتموا صفة محمّد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. {أولئك يَلعَنُهُمُ الله} أصل اللّعن في اللغة الطّرد ولعن الله إبليس بطرده إيّاه حين قال له: {فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34] [ص: 77].
قال الشّماخ: وذكر ما ورده:
ذعرت به القطا وبقيت فيه ** مقام الذّئب كالرّجل اللّعين

وقال النّابغة:
فبتّ كانّني خرج لعين ** نفاه النّاس أو أدنف طعين

فمعنى قولنا: لعنه الله: أي طرده وأبعده وأصل اللّعنة ما ذكرنا ثمّ كثر ذلك حتّى صار قولاً.
{وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} أي يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللّهمّ إلعنهم واختلف المفسّرون في هؤلاء اللاّعنين.
قال قتادة: هم الملائكة.
عطاء: الجنّ والأنس.
الحسن: عباد الله أجمعون.
ابن عبّاس: كلّ شيء إلاّ الجنّ والأنس.
الضحّاك: إن الكافر إذا وضع في حفرته قيل له من ربّك؟ ومن نبيّك؟ وما دينك؟ فيقول: لا أدري. فيقول له: لا دريت، ثمّ يضربه ضربة بمطرق فيصيح صيحة يسمعها كلّ شيء إلاّ الثّقلان الأنس والجنّ فلا يسمع صوته شيء إلاّ لعنه فذلك قوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون}.
البراء بن عازب: إنّ الكافر إذا وضع في قبره أتته دابّة كأنّ عينيها قدران من نحاس معها عمود من حديد فتضربه ضربة بين كتفيه فيصيح فلا يسمع أحد صوته إلاّ لعنه ولا يبقى شيء إلاّ سمع صوته غير الثقلين.
ابن مسعود: هو الرّجل يلعن صاحبه فترتفع اللّعنة في السماء ثمّ تنحدر فلا تجد صاحبها الّذي قيلت له أهلاً لذلك فترجع إلى الّذي يحكم بها فلا تجده لها أهلاً فتنطلق فتقع على اليهود فهو قوله عزّ وجلّ {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون}. فمن تاب منهم ارتفعت اللّعنة عنه وكانت فيمن لقي من اليهود.
مجاهد: اللاّعنون البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أسنت السنّة وامسك المطر قالت: هذا بشؤم ذنوب بني آدم.
عكرمة: دوّاب الأرض وهوامّها حتّى الخنافس والعقارب يقولون منعنا القطر بذنوب بني آدم وإنّما قال لهذه الأشياء اللاّعنون ولم يقل اللاعنات؛ لأن من شأن العرب إذا وصفت شيئاً من الجمادات والبهائم وغيرها سوى النّاس بما هو صفة للنّاس من فعل أو قول لن يخرجوه على مذهب بني آدم وجمعهم كقولهم {والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] ولم يقل ساجدات، وقوله للأصنام {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، وقوله: {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18]، وقوله: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21] الآية ثمَّ استثنى فقال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} من الكفر.
{وَأَصْلَحُواْ} الأعمال فيما بينهم وبين ربّهم.
{وَبَيَّنُواْ} صفة محمّد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم.
{فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم.
{وَأَنَا التَّوَّابُ} الرجّاع بقلوب عبادي المنصرفة عني.
{الرَّحِيمُ} بهم بعد إقبالهم عليّ. {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} واو حال.
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة} أي ولعنة الملائكة.
{والناس أَجْمَعِينَ} قتادة والربيع: يعني النّاس أجمعين: المؤمنين.
أبو العالية: هذا يوم القيامة يوقّف الكافر فيلعنه الله عزّ وجلّ ثمّ تلعنه الملائكة ثمّ يلعنه النّاس أجمعين.
السّدي: لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما لعن الله الظالم إلاّ وجبت تلك اللعنة على الكافر لإنّه ظالم فكل أحد من الخلق يلعنه.
{خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين في اللعنة والنّار.
{لاَ يُخَفَّفُ} لا يرفّه عنهم العذاب.
{وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} يمهلون ويؤجلون.
وقال أبو العالية: لا ينظرون: فيعذرون كقوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35-36].